فصل: تفسير الآية رقم (1):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: محاسن التأويل



.سورة التوبة:

.تفسير الآية رقم (1):

القول في تأويل قوله تعالى: {بَرَاءةٌ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ} [1].
وقوله تعالى: {بَرَاءةٌ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ} خبر لمحذوف، وتنوينه للتفخيم، أي: هذه براءة، أو مبتدأ مخصص، وخبره: {إلى الذين}.
والبراءة في اللغة انقطاع العصمة، يقال: برئت من فلان براءة، أي: انقطعت بيننا العصمة، ولم يبق بيننا علقة.
فإن قيل: حق البراءة أن تُنسب إلى المعاهد، فلم لم تنسب إليهم، ونسبت إلى الله ورسوله؟
أجيب: أن: {عاهدتم} إخبار عن سابق صدر من الرسول صلى الله عليه وسلم والجماعة، فنسب إلى الكل، كما هو الواقع، وإن كان بإذن الله أيضاً.
وأما البراءة فهي إخبار عن متجدد، فكيف ينسب إليهم، وهم لم يحدثوه بعد، وإنما يسند إلى من أحدثه؟
وقال الناصر: إن سر ذلك أن نسبة العهد إلى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم في مقام نسب فيه النبذ إلى المشركين، لا يحسن أدباً، ألا ترى إلى وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمراء السرايا حيث يقول لهم:
«إذا نزلت بحصن فطلبوا النزول على حكم الله، فأنزلهم على حكمك، فإنك لا تدري أصادفت حكم الله فيهم أولا! وإن طلبوا ذمة الله، فأنزلهم على ذمتك، فلأن تخفر ذمتك، خير من أن تخفر ذمة الله»!
فانظر إلى أمره صلى الله عليه وسلم بتوقير ذمة الله، مخافة أن تخفر، وإن كان لم يحصل بعد ذلك الأمر المتوقع، فتوقير عهد الله، وقد تحقق من المشركين النكث، وقد تبرأ منه الله ورسوله بألا ينسب العهد المنبوذ إلى الله أحرى وأجدر. فلذلك نسب العهد إلى المسلمين دون البراءة منه.
وقال الشهاب: ولك أن تقول: إنما أضاف العهد إلى المسلمين، لأن الله علم أن لا عهد لهم، فلذا لم يضف العهد إليه، لبراءته منهم، ومن عهدهم في الأزل.
وهذا نكتة الإتيان بالجملة إسمية خبرية، وإن قيل: إنها إنشائية للبراءة منهم، ولذا دلت على التجدد. انتوبينهم، ابن إسحاق. نزلت براءة في نقض ما بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين المشركين من العقد الذي كانوا عليه فيما بينه وبينهم، ألا يصدّ عن البيت أحد جاءه، ولا يخاف أحد في الشهر الحرام. وكان ذلك عهداً عاماً بينه وبين الناس من أهل الشرك.
وكانت بين ذلك عهود بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين قبائل من العرب خصائص إلى آجال مسماة، فنزلت فيه وفيمن تخلف من المنافقين عنه في تبوك، وفي قول من قال منهم، فكشف الله سرائر أقوام كانوا يستخفون بغير ما يظهرون.
وقال ابن كثير: وأول هذه السورة نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رجع من غزوة تبوك، وهم بالحج، ثم ذكر أن المشركين يحضرون عامهم هذا الموسم على عادتهم في ذلك، وأنهم يطوفون بالبيت عراة فكره مخالطتهم، وبعث أبا بكر الصديق رضي الله عنه أميراً على الحج تلك السنة، ليقيم للناس مناسكهم، ويعلم المشركون ألا يحجوا بعد عامهم هذا، وأن ينادي بالناس: {براءة من اللَّه ورسوله}، فلما قفل، وأتبعه بعلي بن أبي طالب، لكونه مبلغاً عنه صلى الله عليه وسلم، ولكونه عصبةٌ له، كما سيأتي.
وقوله تعالى:

.تفسير الآية رقم (2):

القول في تأويل قوله تعالى: {فَسِيحُواْ فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُواْ أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللّهِ وَأَنَّ اللّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ} [2].
{فَسِيحُواْ فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ} أي: فقولوا لهم: سيروا في الأرض بعد نبذنا العهد، آمنين من القتل والقتال مدة أربعة أشهر، وذلك من يوم النحر إلى عشر يخلون من ربيع الآخر.
والمقصود تأمينهم من القتل، وتفكرهم واحتياطيهم، ليعلموا أنهم ليس لهم بعدها إلا السيف، وليعلموا قوة المسلمين إذ لم يخشوا استعدادهم لهم.
وهذه الأربعة الأشهر كانت عهداً لمن له عهد دون الأربعة الأشهر، فأتمت له.
فأما من كان له عهد موقت، فأجله إلى مدته، مهما كانت، لقوله تعالى: {فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِم}، كما يأتي.
روي هذا عن غير واحد، واختاره ابن جرير. وقال مجاهد: هذا تأجيل للمشركين مطلقاً، فمن كانت مدة عهده أقل من أربعة أشهر رفع إليها، ومن كانت أكثر حط إليها، ومن كان عهده بغير أجل حُدَّ بها، ثم هو بعد ذلك حرب لله ولرسوله، يقتل حيث أدرك ويؤسر، إلا أن يتوب ويؤمن.
أقول: ولا يرد عليه إطلاق قوله تعالى: {إِلَى مُدَّتِهِمْ}، لأن له أن يجيب بأن الإضافة للعهد، أي: المدة المعهودة وهي الأربعة الأشهر. والله أعلم.
{وَاعْلَمُواْ أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللّهِ} يعني أن هذا الإمهال ليس لعجز عنكم ولكن لحكمة ولطف بكم، أي: فلا تفوتونه وإن أمهلكم {وَأَنَّ اللّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ} أي: مُذلهم بالقتل في الدنيا، والعذاب في الآخرة.

.تفسير الآية رقم (3):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَأَذَانٌ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ أَنَّ اللّهَ بَرِيءٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِن تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [3].
{وَأَذَانٌ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ أَنَّ اللّهَ بَرِيءٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ}. الأذان بمعنى الإيذان، وهو الإعلام، كما أن الأمان والعطاء بمعنى الإيمان والإعطاء.
وارتفاعه كارتفاع: {براءة} وهذه الجملة معطوفة على مثلها، والفرق بين معنى الجملة الأولى والثانية أن تلك إخبار بثبوت البراءة، وهذه إخبار بوجوب الإعلام بما ثبت، وإنما عُلقت البراءة بالذين عوهدوا من المشركين، وعلق الأذان بالناس، لأن البراءة مختصة بالمعاهدين والناكثين منهم، وأما الأذان فعامّ لجميع الناس، من عاهد ومن لم يعاهد، ومن نكث من المعاهدين ومن لم ينكث كذا في الكشاف.
ويوم الحج الأكبر: قيل يوم عرفة، وقيل يوم النحر.
قال ابن القيم: وهو الصواب، لأنه ثبت في الصحيحين أن أبا بكر وعلياً رضي الله عنهما، أذّناً بذلك يوم النحر، لا يوم عرفة.
وفي سنن أبي داود بأصح إسناد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: يوم الحج الأكبر يوم النحر، وكذلك قال أبو هريرة وجماعة من الصحابة.
ويوم عرفة مقدمة ليوم النحر بين يديه، فإن فيه يكون الوقوف والتضرع والتوبة والإبتهال والإستقامة، ثم يوم النحر تكون الوفادة والزيارة، ولهذا سمي طوافه طواف الزيارة، لأنه قد طهروا من ذنوبهم يوم عرفة، ثم أذن لهم يوم النحر في زيارته، والدخول عليه إلى بيته، ولهذا كان فيه ذبح القرابين، وحلق الرؤوس، ورمي الجمار ومعظم أفعال الحج وعمل يوم عرفة، كالطهور والإغتسال بين يدي هذه اليوم، انتهى.
تنبيه:
روى الأئمة هاهنا آثاراً كثيرة، نأتي منها على جوامعها:
قال ابن أبي نَجِيْح عن مجاهد: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم من تبوك حين فرغ، فأراد الحج ثم قال: «إنما يحضر المشركون فيطوفون عراة فلا أحب أن أحج»، حتى لا يكون ذلك: فأرسل أبا بكر وعلياً فطافا بالناس في ذي المجاز وبأمكنتهم التي كانوا يتبايعون بها، وبالمواسم كلها، فآذنوا أصحاب العهد بأن يؤمنوا أربعة أشهر، فهي الأشهر المتواليات، عشرون من ذي الحجة، إلى عشر يخلون من ربيع الآخر، ثم لا عهد لهم، وآذن الناس كلهم بالقتال، إلى أن يؤمنوا.
وروى ابن إسحاق بسنده عن أبي جعفر محمد بن علي رضوان الله عليه قال: لما نزلت براءة على رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد كان بعث أبا بكر الصديق رضي الله عنه ليقيم للناس الحج، قيل له: يا رسول الله لو بعثت بها إلى أبي بكر، فقال: «لا يؤدي عني إلا رجل من أهل بيتي»، ثم دعا علي بن أبي طالب رضوان الله عليه، فقال له: «اخرج بهذه القصة من صدر براءة، وأذن في الناس يوم النحر إذا اجتمعوا بمنى، أنه لا يدخل الجنة كافر، ولا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عُريان، ومن كان له عند رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد فهو له إلى مدته».
فخرج علي بن أبي طالب على ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم العضباء، حتى أدرك أبا بكر الصديق، فلما رآه أبو بكر بالطريق قال: أمير أو مأمور؟ فقال: بل مأمور، ثم مضيا، فأقام أبو بكر للناس الحج، والعرب إذا ذاك في تلك السنة على منازلهم من الحج التي كانوا عليها في الجاهلية، حتى إذا كان يوم النحر قام علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فأذن في الناس بالذي أمره به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: «أيها الناس إنه لا يدخل الجنة كافر، ولا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان، ومن كان له عند رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد فهو له إلى مدته».
وأجل الناس أربعة أشهر من يوم أذّن فيهم، ليرجع كل قوم إلى مأمنهم وبلادهم، ثم لا عهد لمشرك ولا ذمة، إلا أحدٌ كان له عند رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد إلى مدة، فهو له إلى مدته، فلم يحج بعد ذلك العام مشرك، ولم يطف بالبيت عريان.
ثم قدما على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال ابن إسحاق: فكان هذا من أمر براءة فيمن كان من أهل الشرك من أهل العهد العامّ، وأهل المدة إلى الأجل المسمى.
وروى البخاري عن أبي هريرة قال: بعثني أبوبكر رضي الله عنه في تلك الحجة في المؤذّنين، بعثهم يوم النحر يؤذنون بمنى: «ألا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان».
قال حميد: ثم أردف النبي صلى الله عليه وسلم بعلي بن أبي طالب، فأمره أن يؤذن ببراءة.
قال أبو هريرة: فأذن معنا علي في أهل منى يوم النحر ببراءة، وألا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان.
وفي رواية أخرى للبخاري، قال أبو هريرة: بعثني أبو بكر فيمن يؤذّن يوم النحر بمنى: لا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان ويوم الحج الأكبر يوم النحر، وإنما قيل الأكبر من أجل قول الناس- للعمرة- الحج الأصغر، فنبذ أبو بكر إلى الناس في ذلك العام، فلم يحج عام حجة الوداع الذي حجّ فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم مشرك. هذا لفظ البخاري في كتاب الجهاد.
وروى الإمام أحمد عن أبي هريرة قال: كنت مع علي بن أبي طالب حين بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهل مكة ببراءة، فقال: ما كنتم تنادون؟ قال: كنا ننادي: «أنه لا يدخل الجنة كافر، ولا يطوف بالبيت عريان، ومن كان بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد فإن أجله- أو أمدهُ- إلى أربعة أشهر، فإذا مضت الأربعة الأشهر، فإن الله بريء من المشركين ورسوله، ولا يحج هذا البيت بعد العام مشرك». قال: فكنت أنادي حتى صَحِل صوتي، صحل الرجلُ وصحل صوتُهُ: بَحَّ.
وقوله تعالى: {فَإِن تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ} أي: فإن تبتم أيها المشركون، من كفركم ورجعتم إلى توحيد الله وإخلاص العبادة له دون الآلهة والأنداد، فهو خير لكم من الإقامة على الشرك رأس الضلال والفساد {وَإِن تَوَلَّيْتُمْ} أي: عن الإيمان وأبيتم إلا الإقامة على ضلالكم وشرككم {فَاعْلَمُواْ أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللّهِ} أي: غير فائتين أخذه وعقابه {وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُواْ} أي: جحدوا نبوّتك وخالفوا أمر ربهم {بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} أي: موجع يحل بهم.
وفيه من التهكم والتهديد ما فيه، كيلا يظن أن عذاب الدنيا، لو فات وزال خلصوا من العذاب، بل العذاب مُعَدٌّ لهم يوم القيامة.
ثم استثنى تعالى من ضرب مدة التأجيل، لمن له عهد مطلق بأربعة أشهر، من له عهد مؤقت بتأجيله إلى مدته المضروبة التي عوهد عليها، فقال سبحانه: